فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم أعاد ذكر الأسوة تأكيدًا للكلام، فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي في إبراهيم والذين معه، وهذا هو الحث عن الائتساء بإبراهيم وقومه، قال ابن عباس: كانوا يبغضون من خالف الله ويحبون من أحب الله، وقوله تعالى: {لّمَن كَانَ يَرْجُو الله} بدل من قوله: {لَكُمْ} وبيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله ويخاف عذاب الآخرة، {وَمَن يَتَوَلَّ} أي يعرض عن الائتساء بهم ويميل إلى مودة الكفار {فَإِنَّ الله هُوَ الغنى} عن مخالفة أعدائه {الحميد} إلى أوليائه.
أما قوله: {عَسَى الله} فقال مقاتل: لما أمر الله تعالى المؤمنين بعداوة الكفار شددوا في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقاربهم والبراءة منهم فأنزل الله تعالى قوله: {عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مّنْهُم} أي من كفار مكة {مَّوَدَّةَ} وذلك بميلهم إلى الإسلام ومخالطتهم مع أهل الإسلام ومناكحتهم إياهم.
وقيل: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة، فلانت عند ذلك عريكة أبي سفيان، واسترخت شكيمته في العداوة، وكانت أم حبيبة قد أسلمت، وهاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة، فتنصر وراودها على النصرانية فأبت، وصبرت على دينها، ومات زوجها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، فخطبها عليه، وساق عنه إليها أربعمائة دينار، وبلغ ذلك أباها فقال: ذلك الفحل لا يفدغ أنفه، و{عَسَى} وعد من الله تعالى: {وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مّنْهُم مَّوَدَّةً} يريد نفرًا من قريش آمنوا بعد فتح مكة، منهم أبو سفيان بن حرب، وأبو سفيان بن الحرث، والحرث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام، والله تعالى قادر على تقليب القلوب، وتغيير الأحوال، وتسهيل أسباب المودة، {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} بهم إذا تابوا وأسلموا، ورجعوا إلى حضرة الله تعالى، قال بعضهم: لا تهجروا كل الهجر، فإن الله مطلع على الخفيات والسرائر.
ويروى: «أحبب حبيبك هونًا ما، عسى أن يكون بغيضك يومًا ما».
ومن المباحث في هذه الحكمة هو أن قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} إذا كان تأويله: لا تسلط علينا أعداءنا مثلًا، فلم ترك هذا، وأتى بذلك؟ فنقول: إذا كان ذلك بحيث يحتمل أن يكون عبارة عن هذا، فإذا أتى به فكأنه أتى بهذا وذلك، وفيه من الفوائد ما ليس في الاقتصار على واحد من تلك التأويلات.
الثاني: لقائل أن يقول: ما الفائدة في قوله تعالى: {واغفر لَنَا رَبَّنَا} وقد كان الكلام مرتبًا إذا قيل: لا تجعلنا فتنة للذين كفروا إنك أنت العزيز الحكيم فنقول: إنهم طلبوا البراءة عن الفتنة، والبراءة عن الفتنة لا يمكن وجودها بدون المغفرة، إذ العاصي لو لم يكن مغفورًا كان مقهورًا بقهر العذاب، وذلك فتنة، إذ الفتنة عبارة عن كونه مقهورًا، و{الحميد} قد يكون بمعنى الحامد، وبمعنى المحمود، فالمحمود أي يستحق الحمد من خلقه بما أنعم عليهم، والحامد أي يحمد الخلق، ويشكرهم حيث يجزيهم بالكثير من الثواب عن القليل من الأعمال. اهـ.

.قال الألوسي:

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ} أي في إبراهيم عليه السلام ومن معه {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الكلام فيه نحو ما تقدم، وقوله تعالى: {لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر} أي ثوابه تعالى أو لقاءه سبحانه ونعيم الآخرة أو أيام الله تعالى واليوم الآخر خصوصًا، والرجاء يحتمل الأمل والخوف صلة لحسنة أو صفة، وجوز كونه بدلًا من {لَكُمْ} بناءًا على ما ذهب إليه الأخفش من جواز أن يبدل الظاهر من ضمير المخاطب وكذا من ضمير المتكلم بدل الكل كما يجوز أن يبدل من ضمير الغائب، وأن يبدل من الكل بدل البعض وبدل الاشتمال وبدل الغلط.
ونقل جواز ذلك الإبدال عن سيبويه أيضًا، والجمهور على منعه وتخصيص الجواز ببدل البعض، والاشتمال، والغليط.
وذكر بعض الأجلة أنه لا خلاف في جواز أن يبدل من ضمير المخاطب بدل الكل فيما يفيد إحاطة كما في قوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَءاخِرِنَا} [المائدة: 114] وجعل ما هنا من ذلك وفيه خفاء، وجملة {لَقَدْ كَانَ} إلخ قيل: تكرير لما تقدم من المبالغة في الحث على الائتساء بإبراهيم عليه السلام ومن معه، ولذلك صدرت بالقسم وهو على ما قال الخفاجي: إن لم ينظر لقوله تعالى: {إِذْ قالواْ} [الممتحنة: 4] فإنه قيد مخصص فإن نظر له كان ذلك تعميمًا بعد تخصيص، وهو مأخوذ من كلام الطيبي في تحقيق أمر هذا التكرير.
والظاهر أن هذا مقيد بنحو ما تقدم كأنه قيل: لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة إذ قالوا إلخ، وفي قوله سبحانه: {لّمَن كَانَ} إلخ إشارة إلى أن من كان يرجو الله تعالى واليوم الآخر لا يترك الاقتداء بهم وإن تركه من مخايل عدم رجاء الله سبحانه واليوم الآخر الذي هو من شأن الكفرة بل مما يؤذن بالكفر كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد} فإنه مما يوعد بأمثاله الكفرة.
{عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مّنْهُم} أي من أقاربكم المشركين {مَّوَدَّةَ} بأن يوافقوكم في الدين، وعدهم الله تعالى بذلك لما رأى منهم التصلب في الدين والتشدد في معاداة آبائهم وأبنائهم وسائر أقربائهم ومقاطعتهم إياهم بالكلية تطييبًا لقولهم، ولقد أنجز الله سبحانه وعده الكريم حين أتاح لهم الفتح فأسلم قومهم فتم بينهم من التحابّ والتصافي ما تم، ويدخل في ذلك أبو سفيان وأضرابه من مسلمة الفتح من أقاربهم المشركين.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن عدي، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كانت المودة التي جعل الله تعالى بينهم تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان فصارت أم المؤمنين وصار معاوية خال المؤمنين، وأنت تعلم أن تزوجها كان وقت هجرة الحبشة، ونزول هذه الآيات سنة ست من الهجرة فما ذكر لا يكاد يصح بظاهره، وفي ثبوته عن ابن عباس مقال: {والله قَدِيرٌ} مبالغ في القدرة فيقدر سبحانه على تقليب القلوب وتغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة {والله غَفُورٌ} مبالغ في المغفرة فيغفر جل شأنه لما فرط منكم في موالاتهم {رَّحِيمٌ} مبالغ في الرحمة فيرحمكم عز وجل بضم الشمل واستحالة الخيانة ثقة وانقلاب المقت مقة، وقيل: يغفر سبحانه لمن أسلم من المشركين ويرحمهم، والأول أفيد وأنسب بالمقام. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}
تكرير قوله آنفًا {قد كانت لكم إسوة حسنة في إبراهيم} [الممتحنة: 4] إلخ، أعيد لتأكيد التحريض والحث على عدم إضاعة الائتساء بهم، وليبنى عليه قوله لمن كان يرجو الله واليوم الآخر إلخ.
وقُرن هذا التأكيد بلام القسم مبالغة في التأكيد.
وإنما لم تتصل بفعل {كان} تاء تأنيث مع أن اسمها مؤنث اللفظ لأن تأنيث أسوة غير حقيقي، ولوقوع الفصل بين الفعل ومرفوعه بالجار والمجرور.
والإِسوة هي التي تقدم ذكرها واختلاف القراء في همزتها في قوله: {قد كانت لكم إسوة حسنة}.
وقوله: {لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} بدل من ضمير الخطاب في قوله: {لكم} وهو شامل لجميع المخاطبين، لأن المخاطبين بضمير {لكم} المؤمنون في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} [الممتحنة: 1] فليس ذكر {لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} تخصيصًا لبعض المؤمنين ولكنه ذكر للتذكير بأن الإِيمان بالله واليوم الآخر يقتضي تأسيَهم بالمؤمنين السابقين وهم إبراهيم والذين معه.
وأعيد حرف الجر العامل في المبدل منه لتأكيد أن الإِيمان يستلزم ذلك.
والقصد هو زيادة الحث على الائتساء بإبراهيم ومن معه، وليرتب عليه قوله: {ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد}، وهذا تحذير من العود لما نُهوا عنه.
ففعل {يتول} مضارع تولّى، فيجوز أن يكون ماضيه بمعنى الإِعراض، أي من لا يرجو الله واليوم الآخر ويعرض عن نهي الله فإن الله غنيّ عن امتثاله.
ويجوز عندي أن يكون ماضيه من التولي بمعنى اتخاذ الوَلي، أي من يتخذ عدو الله أولياء فإن الله غنيّ عن ولايته كما في قوله تعالى: {ومن يتولّهم منكم فإنه منهم} في سورة [العقود: 51].
وضمير الفصل في قوله: {هو الغني} توكيد للحصر الذي أفاده تعريف الجزأين، وهو حصر ادعائي لعدم الاعتداد بغنى غيره ولا بحمده، أي هو الغني عن المتولين لأن النهي عما نهوا عنه إنما هو لفائدتهم لا يفيد الله شيئًا فهو الغني عن كل شيء.
وإتْباع {الغني} بوصف {الحميد} تتميم، أي الحميد لمن يمتثل أمره ولا يعرض عنه أو {الحميد} لمن لا يتخذ عدوه وليًا على نحو قوله تعالى: {إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم} [الزمر: 7].
{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً}
اعتراض وهو استئناف متصل بما قبله من أول السورة خوطب به المؤمنون تسلية لهم على ما نُهوا عنه من مواصلة أقربائهم، بأن يرجوا من الله أن يجعل قطيعتهم آيلة إلى مودة بأن يُسلم المشركون من قرابة المؤمنين وقد حقق الله ذلك يوم فتح مكة بإسلام أبي سفيان والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام.
قال ابن عباس: كان من هذه المودة تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان، تزوجها بعد وفاة زوجها عبدِ الله بن جَحش بأرض الحبشة بعد أن تنصَّر زوجها فلما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم لانت عريكة أبي سفيان وصرح بفضل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ذلك الفحل لا يُقْدَع أنفه) (روي بدال بعد القاف يُقال: قَدع أنفَه. إذا ضرَب أنفه بالرّمح) وهذا تمثيل، كانوا إذا نزا فحل غير كريم على ناقة كريمة دفعوه عنها بضرب أنفه بالرمح لئلا يكون نَتاجها هَجينًا.
وإذ تقدم أن هذه السورة نزلت عام فتح مكة وكان تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أمّ حبيبة في مدة مهاجرتها بالحبشة وتلك قبل فتح مكة كما صرح به ابن عطية وغيره.
يعني فتكون آية: {عسى الله أن يجعل بينكم} إلخ نزلت قبل نزول أول السورة ثم ألحقت بالسورة.
وإما أن يكون كلام ابن عباس على وجه المثال لحصول المودة مع بعض المشركين، وحصولُ مثل تلك المودة يهيّئ صاحبه إلى الإِسلام واستبعد ابن عطية صحة ما روي عن ابن عباس.
و{عسى} فعل مقاربة وهو مستعمل هنا في رجاء المسلمين ذلك من الله أو مستعملة في الوعد مجردة عن الرجاء.
قال في (الكشاف): كما يقول المَلك في بعض الحوائج عسى أو لعل فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك.
وضمير {منهم} عائد إلى العدوّ من قوله: {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} [الممتحنة: 1].
وجملة {والله قدير} تذييل.
والمعنى: أنه شديد القدرة على أن يغير الأحوال فيَصيرَ المشركون مؤمنين صادقين وتصيرون أوِدَّاء لهم.
وعطف على التذييل جملة {والله غفور رحيم}، أي يغفر لمن أنابوا إليه ويرحمهم فلا عجب أن يصيروا أودّاء لكم كما تصيرون أوداء لهم. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}
العدو اسم يقع للجمع والمفرد والمراد به هاهنا كفار قريش، وهذه الآية نزلت بسبب حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى مكة عام الحديبية فورى عن ذلك بخيبر، فشاع في الناس أنه خارج إلى خيبر، وأخبر هو جماعة من كبار أصحابه بقصده، منهم حاطب بن أبي بلتعة فكتب حاطب إلى قوم من كفار مكة يخبرهم بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث عليًا والزبير وثالثًا هو المقداد، وقيل أبو مرثد، وقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين»، فانطلقوا حتى وجدوا المرأة واسمها سارة مولاة لقوم من قريش، وقيل بل كانت امرأة من مزينة ولم تكن سارة، فقالوا لها: أخرجي الكتاب. قالت: ما معي كتاب، ففتشوا جميع رحلها فما وجدوا شيئًا، فقال بعضهم: ما معها كتاب، فقال علي: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تكذبي والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك. قالت: أعرضوا عني فحلته من قرون رأسها، وقيل: أخرجته من حجزتها، فجاءوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لحاطب: «من كتب هذا»؟ فقال: أنا يا رسول الله ولكن لا تعجل علي فوالله ما فعلت ذلك ارتدادًا عن ديني ولا رغبة عنه ولكني كنت أمرًا ملصقًا في قريش ولم أكن من أنفسها فأحببت أن تكون لي عندهم يد يرعونني بها في قرابتي. فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صدق حاطب إنه من أهل بدر وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر. فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، ولا تقولوا لحاطب إلا خير»، فنزلت الآية بهذا السبب، وروي أن حاطبًا كتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوكم في مثل الليل، والسيل، وأقسم بالله لو غزاكم وحده لنصر عليكم فكيف وهو في جمع كثير، و{تلقون} في موضع الصفة لـ: {أولياء}، وألقيت يتعدى بحرف الجر، وبغير حرف جر، فدخول الباء وزوالها سواء، وهذا نظير قوله عز وجل: {وألقيت عليك محبة مني} [طه: 39] وقوله تعالى: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب} [آل عمران: 151] وروى ابن المعلى عن عاصم أنه قرأ: {وقد كفروا لما} بلام...
وقوله تعالى: {يخرجون} في موضع الحال من الضمير في {كفروا} والمعنى: يخرجون الرسول ويخرجونكم، وهي حال موصوفة، فلذلك ساق الفعل مستقبلًا والإخراج قد مر، وتضييق الكفار على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إخراج إذ كان مؤديًا إلى الخروج، وقوله تعالى: {إن تؤمنوا} مفعول من أجله أي اخرجوا لأجل أن آمنتم بربكم، وقوله تعالى: {إن كنتم} شرط جوابه متقدم في معنى ما قبله، وجاز ذلك لما لم يظهر عمل الشرط، والتقدير: (إن كنتم خرجتم جهادًا في سبيلي وابتغاء مرضاتي، فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) و{جهادًا} نصب على المصدر وكذلك {ابتغاء}، ويجوز أن يكون ذلك مفعولًا من أجله، و(المرضاة) مصدر كالرضى، و{تسرون} بدل من {تلقون}، ويجوز أن تكون في موضع خبر ابتداء، كأنه قال أنتم {تسرون}، ويصح أن تكون فعلًا مرسلًا ابتدئ به القول والإلقاء بالمودة معنى ما، والإسرار بها معنى زائد على الإلقاء، فيترجح بهذا أن {تسرون} فعل ابتدئ به القول أي تفعلون ذلك وأنا أعلم، وقوله تعالى: {أعلم} يحتمل أن يكون أفعل، ويحتمل أن يكون فعلًا، لأنك تقول عملت بكذا فتدخل الباء وقوله تعالى: {وأنا أعلم} الآية، جملة في موضع الحال، وقرأ أهل المدينة {وأنا} بإشباع الألف في الإدراج، وقرأ غيرهم {وأنا} بطرح الألف في الإدراج، والضمير في {يفعله} عائد على الاتخاذ المذكور، ويجوز أن تكون {سواء} مفعولًا بـ: {ضل} وذلك على بعد، وذلك على تعدي {ضل}، ويجوز أن يكون ظرفًا على غير التعدي لأنه يجيء بالوجهين والأول أحسن في المعنى، والسواء الوسط وذلك لأنه تتساوى نسبته إلى أطراف الشيء والسبيل هنا شرع الله وطريق دينه.
{إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)}
أخبر الله تعالى أن مداراة هؤلاء الكفار غير نافعة في الدنيا وأنها ضارة في الآخرة ليبين فساد رأي مصانعهم فقال تعالى: {إن يثقفوكم} أي إن يتمكنوا منكم وتحصلوا في ثقافهم، ظهرت العداوة وانبسطت أيديهم بضرركم وقتلكم وألسنتهم بسبكم، وهذا هو السوء، وأشد من هذا كله أنهم إنما يقنعهم منكم أن تكفروا وهذا هو ودهم، ثم أخبر تعالى أن هذه الأرحام التي رغبتم في وصلها ليست بنافعة يوم القيامة فالعامل في {يوم} قوله: {تنفعكم}، وقال بعض النحاة في كتاب الزهراوي، العامل فيه {يفصل} وهو مما بعده لا مما قبله، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والعامة: {يُفْصَل} بضم الياء وسكون الفاء وتخفيف الصاد مفتوحة، وقرأ ابن عامر والأعرج وعيسى: {يُفَصَّل} بضم الياء وفتح الفاء وشد الصاد منصوبة، واختلف على هاتين القراءتين في إعراب قوله: {بينكم} فقيل: نصب على الظرفية، وقيل رفع على ما لم يسم فاعله إلا أن لفظه بقي منصوبًا لأنه كذلك كثر استعماله، وقرأ عاصم والحسن والأعمش: {يَفْصِل} بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد خفيفة، وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب: {يُفَصِّل} بضم الياء وفتح الفاء وشد الصاد المكسورة، وإسناد الفعل في هاتين القراءتين إلى الله تعالى، وقرأ النخعي وطلحة بن مصرف: {نفَصِّلُ} بنون العظمة مرفوعة وفتح الفاء وشد الصاد المكسورة، وقرأ بعض الناس: {نَفْصل} بنون العظمة مفتوحة وسكون الفاء، وقرأ أبو حيوة، بضم الياء وسكون الفاء وكسر الصاد خفيفة من: {أفصل} وفي قوله تعالى: {والله بما تعملون بصير} وعيد وتحذير، وقرأ جمهور السبعة: {إسوة} بكسر الهمزة، وقرأ عاصم وحده: {أسوة} بضمها وهما لغتان، والمعنى: قدوة وإمام ومثال، و{إبراهيم} هو خليل الرحمن، واختلف الناس في {الذين معه}، فقال قوم من المتأولين أراد من آمن به من الناس، وقال الطبري وغيره: أراد الأنبياء الذين كانوا في عصره وقريبًا من عصره، وهذا القول أرجح لأنه لم يُروَ أن إبراهيم كان له أتباع مؤمنون في مكافحته نمرودًا، وفي البخاري أنه قال لسارة حين رحل بها إلى الشام مهاجرًا من بلد النمرود: ما على الأرض من يعبد الله غيري وغيرك، وهذه الأسوى مقيدة في التبري عن الإشراك وهو مطرد في كل ملة، وفي نبينا عليه السلام أسوة حسنة على الإطلاق لأنها في العقائد وفي أحكام الشرع كلها، وقرأ جمهور الناس {برءاء} على وزن فعلاء الهمزة الأولى لام الفعل، وقرأ عيسى الثقفي: {بِراء}، على وزن فِعال، بكسر الباء ككريم وكرام، وقرأ يزيد بن القعقاع: {بُراء} على وزن فُعال، بضم الفاء كنوام، وقد رويت عن عيسى قراءة، قال أبو حاتم: زعموا أنه عيسى الهمداني ويجوز: {بَراء} على المصدر بفتح الباء يوصف به الجمع والإفراد، وقوله: {كفرنا بكم} أي كذبناكم في أقوالكم ولم نؤمن بشيء منها، ونظير هذا قوله عليه السلام حكاية عن قول الله عز وجل: فهو مؤمن بي كافر بالكوكب ولم تلحق العلامة في: {بدا} لأن تأنيث {العداوة والبغضاء} غير حقيقي، ثم استثنى تعالى استغفار إبراهيم لأبيه، وذكر أنه كان عن موعدة وقد تفسر ذلك في موضعه، وهذا استثناء ليس من الأول، والمعنى عند مجاهد وقتادة وعطاء الخراساني وغيرهم: أن الأسوة لكم في هذا الوجه، لا في هذا الآخر لأنه كان في علة ليست في نازلتكم، ويحتمل أن يكون استثناء من التبري والقطيعة التي ذكرت أي لم تبق صلة إلا كذا، وقوله تعالى: {ربنا عليك توكلنا} الآية، حكاية عن قول إبراهيم والذين معه إنه هكذا كان.
قوله تعالى: {ربنا لا تجعلنا} الآية، حكاية عن إبراهيم ومن معه والمعنى: لا تغلبهم علينا، فتكون لهم فتنة وسبب ضلالة، لأنهم يتمسكون بكفرهم ويقولون إنما غلبناهم لأنا على الحق وهم على الباطل، نحا هذا المنحى قتادة وأبو مجلز، وقال ابن عباس المعنى: لا تسلطهم علينا فيفتنوننا عن أدياننا فكأنه قال: لا تجعلنا مفتونين فعبر عن ذلك بالمصدر وهذا أرجح الأقوال لأنهم إنما دعوا لأنفسهم، وعلى منحى قتادة إنما دعوا للكفار. أما أن مقصدهم إنما هو أن يندفع عنهم ظهور الكفار الذي يسببه فتن الكفار فجاء في المعنى تحليق بليغ، ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بئس الميت سعد- ليهود- لأنهم يقولون لو كان محمد نبيًا لم يمت صاحبه»، وقوله تعالى: {لقد كان لكم} الآية خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وقوله: {لمن} بدل من قوله: {لكم} وكرر حرف الجر ليتحقق البدل وذلك عرف هذه المبدلات، ومنه قوله تعالى: {للفقراء المهاجرين} [الحشر: 8] وهو في القرآن كثير وأكثر ما يلزم من الحروف في اللام، ثم أعلم تعالى باستغنائه عن العباد وأنه {الحميد} في ذاته وأفعاله لا ينقص ذلك كفر كافر ولا نفاق منافق. وروي أن هذه الآيات لما نزلت وأزمع المؤمنون امتثال أمرها وصرم حبال الكفرة وإظهار عداوتهم لحقهم تأسف على قراباتهم وهم من أن لم يؤمنوا ولم يهتدوا حتى يكون بينهم الود والتواصل فنزلت: {عسى الله} الآية مؤنسة في ذلك ومرجية أن يقع موقع ذلك بإسلامهم في الفتح وصار الجميع إخوانًا، ومن ذكر أن هذه المودة تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، وأنها كانت بعد الفتح، فقد أخطأ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وقت هجرة الحبشة، وهذه الآيات نزلت سنة ست من الهجرة، ولا يصح ذلك عن ابن عباس إلا أن يسوقه مثالًا وإن كان متقدمًا لهذه الآية، لأنه استمر بعد الفتح كسائر ما نشأ من المودات، و{عسى} من الله واجبة الوقوع إن شاء الله تعالى. اهـ.